ولو – إسلام" منصة دينية للتأمل، للفهم، وللربط بين جوهر الدين وروح العصر" بالعربي Français English
Advertising

مكانة حُبّ النبي ﷺ والصلاة عليه بين السُّنة والبِدعة

الأحد 29 يونيو 2025 - 09:44
مكانة حُبّ النبي ﷺ والصلاة عليه بين السُّنة والبِدعة
Zoom

يبدو أن بعض الأصوات في زمننا تُعيد تشكيل مفاهيم الدين بمنطق لا يخلو من مفارقة صادمة؛ إذ لم يعد مستغرباً أن تُصنَّف الصلاة على النبي صلى الله عليه سلم، حين ترد في سياق وجداني صوفي، على أنها شِرك أو بِدعة، وأن يوضع كتاب "دلائل الخيرات" لمؤلفه الإمام العارف "محمد بن سليمان الجزولي" في خانة "الخرافة"، رغم أن هذا الكتاب كان ولا يزال شاهداً على قرون من محبة الأمة لنبيها، لا على انحراف عقدي مزعوم.

وهنا تُطرح أسئلة تتجاوز حدود الجدل الفقهي: هل تحوّلت محبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى تهمة؟ وهل صار الإحتفاء بذكره محل ريبة، بينما يُفسَح المجال لخطابات قاسية، تحت شعارات ظاهرها الغيرة على التوحيد، وباطنها هدم لروافد المحبة والرحمة في بنية التدين؟.

ليس عبثًا أن يُفتتح الخطاب القرآني عن النبي بقوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ" (الأحزاب: 56). فالصلاة عليه ليست طقساً فردياً، بل جزء من البناء العقدي والروحي للمؤمن. إنها تعبير عن اتصال روحي بين الأرض والسماء، يُشارك فيه الخالق والملائكة والمؤمنون معاً.

في المقابل، ثمّة من يُحاول جرّ هذه المعاني إلى ساحة الإشتباك الإيديولوجي، متجاهلًا أن محبّة النبي صلى الله عليه وسلم ليست هامشاً في الإسلام، بل أصلًا إيمانيًا، إذ جاء في الحديث الصحيح: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين". (رواه البخاري ومسلم).

هل المشكلة في النصوص أم في العقول؟

كتاب "دلائل الخيرات" ليس أكثر من تعبير أدبي وروحي عن هذه المحبة، صاغه الإمام "الجزولي" في زمن كان الوجدان الإسلامي فيه متماهياً مع الذكر والتزكية. هذا الكتاب لم يدّعِ مؤلفه أنه قرآن، ولا نصّاً ملزماً في التشريع، بل هو باب من أبواب التربية الروحية، استعمله المغاربة وغيرهم كوسيلة لصقل القلوب وتعزيز الصلة بالمقام النبوي. لكن المدهش أن تُعامل هذه النصوص بمنطق التفتيش العقائدي، حيث يُقتطع الدعاء من سياقه الروحي، ليُحاكم بمنطق جامد لا يفرّق بين التوسل المشروع والغلو المذموم.

المفارقة الكبرى أن من يملأ فضاء التواصل خطباً ضد البدع، لا يتردد في إهانة أعراض المسلمين، وتسفيه طلبة العلم، ووصف المؤسسات التربوية بأوصاف مشينة. ومع ذلك، يُقدَّم على أنه صاحب غيرة دينية، بينما يوصف من يرفع لواء محبّة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه خرافي أو ضال.

بين خطاب الهدم والبناء

التّدين، في جوهره، ليس مجرّد منظومة شعائرية، بل نظام وجداني يقوم على التوازن بين التعظيم والتوحيد، بين الحب والخضوع. إن الذين يختزلون الدين في معركة مع طواحين البدع، يتجاهلون أن أولى معارك الإصلاح تبدأ من النفس: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا" (الشمس: 9).

خطاب الهدم الذي يُعاد تدويره اليوم، ليس تجديداً كما يُروج له أصحابه، بل هو قطيعة مع مدرسة طويلة من التدين المغربي، الذي امتاز بمزج الفقه بالتصوف، والعقل بالنقل، والظاهر بالباطن. هذا النموذج لم يولد من فراغ؛ بل كان ثمرة تفاعل حضاري عميق، حيث صاغت المجتمعات المغربية فهمها للدين بمنطق جامع، يحفظ التوحيد دون أن يطفئ أنوار المحبة، ويراعي حدود الشرع دون أن يغلق أبواب التزكية.

"دلائل الخيرات" سيبقى يُقرأ، لا لأنه نص مقدس، بل لأنه شاهد على زمن كانت فيه القلوب أكثر صفاءً، وأكثر التصاقاً بسيرة النبي صلى عليه وسلم، وأكثر إدراكًا للفارق بين التوسل المشروع والتأليه المرفوض.

المغاربة الذين حملوا هذا الكتاب عبر الأجيال، لم يكونوا سُذّجاً ولا غافلين عن حدود العقيدة، بل كانوا أكثر وعياً بأن التعظيم ليس شركاً، وأن المحبّة ليست بدعة، وأن الذِّكر حياة، لا خرافة.